أصبحت المخابز التقليدية تشكل وخزاً عميقاً، يمس حياة المواطن بشكل مباشر، نظراً لطبيعة هذه المخابز، وما يكتنفها من غموض في كواليسها المعتمة، حتى أن فوضوية هذه المخابز المبثوثة داخل الأحياء باتت تشكل خطراً داهماً على صحة الناس، وحرجاً كبيراً على أمانة المدينة، نظراً للقطيعة شبه الأبدية بين المراقب الصحي للأمانة، وبين هذه المخابز، والدليل على أن بعض هذه المخابز تعمل خارج رقابة الأمانة، هو الوضع الصحي لهذه المخابز، فلو أن مراقباً صحياً مرّ على بعض هذه المخابز وشاهد أدواتها الصدئة، وجدرانها الكالحة، والتي تخفي ما يدور خلفها، ومستوى نظافتها، والعجينة التي يصنع منها الخبز، وطبيعة الماء الذي يخلط به الطحين، وسلامة الخباز من بعض العلل الصحية، لأمر بإغلاقها على الفور، ومنعها من مزاولة العمل، نظراً لوضعها الصحي المتردي.
وهذا ما يجعلنا نتساءل دائماً عن الدور الرقابي للأمانة، فالمفروض أن يكون لدى الأمانات والبلديات جيوش هائلة من المراقبين الصحيين، ففي بعض البلدان المتقدمة، تكون أغلبية العاملين بالبلديات من المفتشين والمراقبين الصحيين، بينما في بلدياتنا تكون الغلبة للموظفين الإداريين ومديري الأقسام، ويكون قسم الرقابة الصحية قسماً صغيراً يقبع في إحدى زوايا المبنى.
إذن المطلوب هو تكثيف الرقابة الصحية على الأسواق والمخابز ومحلات الخضار، وكل ما له علاقة بصحة وسلامة المستهلك، ومطلوب أيضاً التركيز على المخابز، والتنسيق مع أصحاب هذه المخابز، وأن يكون المكان خالياً من الإحداثيات، والجدران، وأن يكون المكان متاحاً لنظر الزبون، وألا توجد به زوايا خفية، أو وضع كاميرات داخل هذه المخابز، ليكون المستهلك على دراية بما يدور في كواليس هذه المخابز، ليعود للمخبز دوره الاجتماعي، والثقافي، باعتبار أن المخبز يمثل نمطاً ثقافياً اجتماعياً، ومركز تواصل جماهيري، فهو يعتبر آنذاك إحدى وسائل التواصل الاجتماعي (السوشل ميديا) لأنه مركز التقاء بين أهالي الحي، يلتقون به، ويتبادلون أخبار بعضهم البعض، فالكثير من الناس يستهويه ارتياد المخابز، والحديث مع الخباز، وملاطفته، باعتباره كائناً عصامياً عتيداً، وهب نفسه لخدمة الناس.
عن نفسي فأنا مازلت ارتاد المخابز، واحتفظ بصداقات مع العديد من الخبازين، لأنهم ملح الحياة، عادة ما أقف أمام الخباز، وهو يقطع العجين، ويخبزها بين يديه القويتين حتى يصبح رغيفاً كاملاً، ثم يشوح به داخل موقد النار، ويواصل صنع رغيف الخبز.