الجمعة 17 ، شوال لعام 1445 الموافق 26 ، أبريل لعام 2024 17/10/1445 هـ الموافق 26/04/2024 م
logo main

تفاصيل الخبر

العقول الجميلة وفن الإدارة والتخطيط والتطوير

  • محمد جبر الحربي
  • 20 ، شعبان 1442 الموافق 2 ، أبريل 2021
  • جريدة الجزيرة

ظلت صفة المبدع لدينا، ولعقودٍ طويلةٍ، محصورةً على المتعاملين مع الكلمات شعراً ونثراً، ثم شملت أصحاب الفنون، وكذلك كان حال «الثقافة»، فكان المثقف في الغالب هو من يبدع الأدب والفكر والكلام ويجيد التحدث والحوار، ويشير إلى مقولات وأحداث حتى ولو لم يكن له رأي خاص، أو فلسفة خاصة، أو رؤية عميقة منتجة، أي باختصار هو من يكتب ويؤلف، وذلك وصف غير محصور بهم، وغير دقيق، فالثقافة تشمل المعرفة الواسعة بكل شيء، وتطويه بين جناحيها.

ثم بدأ المجتمع رويداً رويداً يتعرف على مثقفين ومبدعين في غير حقول الأدب والفن مع تطور الإعلام كذلك ببطء.

لكن ثورة المعلومات والتقنية ووسائل التواصل عرَّفتنا، وقربتنا أكثر من مبدعين في جميع حقول المعرفة والعلوم، وميادين الحياة والعمل، في هذا الوطن، وعبر العالم.

لقد عرفنا على سبيل المثال لا الحصر مثقفين مبدعين في مجال تخصصهم، كما في فن إدارة الوقت لدى سعود الفيصل وعادل الجبير، كما هما في الدبلوماسية والشؤون السياسية والخارجية واللغات، ومن يبدع في أكثر من مجال كغازي القصيبي.

واليوم نعرف مثقفين مبدعين في الحقول العلمية الدقيقة، والاقتصاد، والعلوم الأمنية والعسكرية مدنيين وعسكريين.

ثم أصبحنا نطلق جملة العقول الجميلة على المبدعين والمبدعات، وقد عرفناهم كما عرفهم العالم أجمع، في مجالات الطب والهندسة والفيزياء وكافة العلوم، وعرفنا المبتكرين والمخترعين، كما عرفنا الموهوبين عبر «موهبة».

ثم جاءت رؤية 2030 ليشاركنا العالم معرفة المملكة العربية السعودية وطاقاتها، وما تزخر به من تراثٍ حضاري، ومعالم سياحية، وفرص استثمارية، وغير ذلك كثير، ومعرفة الخبرات الكبيرة والطاقات الشابة في مختلف مرافق الدولة.

ثم كان أن ابتُلينا بكورونا، فأظهر الوباء أحسن ما فينا، فعرف العالم قدراتنا في مجال التقنية، والتعليم عن بُعد، والإدارة والتنظيم، والحماية والاحتراز والتعقيم والتطعيم، والمشاركات والمساهمات الإنسانية الكبيرة لمكافحته عبر العالم، ومشاركة أطباء وطبيبات سعوديين في معالجة مرضى كورونا في أوروبا وأمريكا واستراليا وغيرها، وكان ختام 2020 قمة العشرين G20 التي كانت المسك في الختام، فأثبتنا للعالم جدارتنا بمكانتنا التي اكتسبناها بأفعالنا واجتهادنا، وكشفنا لهم عن رؤية عميقة تتحقق بثقةٍ وجِدٍّ على أرض الواقع بتوفيق الله بعد توكلنا عليه، معتمدين على عقولنا الجميلة، وسواعد أبنائنا.

لكننا هنا، وفي المملكة العربية السعودية، كنا نجهل كثيراً من ذلك.. ومن ذلك، أي من جهلنا، هو أننا ربما نعرف جمال مدينةٍ كالرياض، ونعرف أنها أكبر مدن العالم مساحةً، ونعرف أهميتها السياسية والاقتصادية للعالم، لكننا لا نعرف كثيراً عن مكامن التطور والتغيُّر فيها، ولا عن كنوزها المعرفية والفنية والصناعية والاقتصادية والرياضية، ولا نعرف أيضاً كثيراً عن العقول الجميلة التي خططت لها لتكون كما نراها كواقعٍ كنا نحلم به، ولا العقول والسواعد التي ساهمت في بنائها ورفعتها عالمياً في مجالات التعليم والصحة والتقنية والمواصلات والاتصالات والسياحة والثقافة والتراث الحضاري وغيرها، ومن قبلُ الأمن وترسيخه، والوحدة الوطنية والحوار الوطني، وحوار الحضارات والأديان، وأولوية مكافحة الإرهاب والفكر المنحرف المتطرف، والدفاع.

ومن هنا نشأت لديَّ فكرة مجلة «هُنا الرياض» في 2010 لتصدر مطلع عام 2015 سابقةً للرؤية 2030 - التي تجعل من الرياض أنموذجاً حضارياً واستثمارياً، ومنارة خيرٍ وحُبٍّ وسلام، ليس للمملكة فحسب بل للعالم أجمع - ومتزامنةً معها..!؛ في محاولة لرسم صورة حقيقية للرياض العاصمة البهيَّة للمملكة العربية السعودية، وبالتالي رسم صورة للسعودية الجديدة المتجذِّرة، ولكن هذا ليس موضوعنا هنا.

فما أثار كل هذا في رأسي، هو الهدية الجميلة من الأمير الدكتور عبد العزيز بن محمد بن عياف، وهي كتاب:

«الإدارة المحليةُ والقطاعُ البلدي

التحديات والفرص الضائعة

الرياضُ أنموذجاً 1997 - 2012م»

وهو كتاب في مجال تخصصه، لكنه ليس تنظيراً، بل هو نتاج خبرة عملية طويلة في إدارة شؤون الرياض، والعمل على تطويرها لعقود، مذ كان رئيساً لقسم التخطيط العمراني في كلية العمارة والتخطيط في جامعة الملك سعود، مروراً بعدة وظائف قيادية أذكر منها: أمين عام الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، رئيس مجلس إدارة شركة الرياض للتعمير، رئيس مجلس المديرين للشركة السعودية لمركز المعيقلية (الرياض القابضة)، رئيس المجلس البلدي لمدينة الرياض، رئيس مجلس التنمية السياحية لمدينة الرياض، وغير ذلك كثير.

وهو اليوم رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان، ورئيس مجلس إدارة مركز الملك سلمان للإدارة المحلية بالجامعة، والذي بادر باقتراحه وفاءً وتكريماً للملك سلمان حفظه الله، وتقديراً من جامعة الأمير سلطان لدوره الريادي في الإدارة المحلية عندما كان أميراً لمنطقة الرياض، وباركه مجلس الأمناء، تقديراً من جامعة الأمير سلطان لدوره الريادي في الإدارة المحلية عندما كان أميراً لمنطقة الرياض.

ويذكر الأمير العياف بحُبٍّ وإعجاب تأثره بنهج الملك سلمان في إدارة منطقة الرياض، وهذا مهم، يقول: «لا يملك الراصد لسيرة الملك سلمان الإدارية عندما كان أميراً للرياض إلا أن يُبهَر بتألُّق سلمان بن عبد العزيز بكل جدارة واقتدار، رجل لمَّاح وذو خبرة واسعة وتجربة طويلة، ويمتلك أسلوباً إدارياً متميزاً واستثنائياً يجمع بين المركزية واللامركزية في نهجٍ إداريٍّ خاص. ويتمثل في إدارته الميزان بينهما حسب ظروف العمل، وما تقتضيه من تفويض للسُّلطة والصلاحيات والمحاسبة عليها. وأسهم كل ذلك في أن تكون الرياض أنموذجاً يُنظر إليه وإلى تجاربه من قبل المناطق الأخرى نظرة اقتداءٍ تعده بحق أميراً لأمراء المناطق، ورائداً للإدارة المحلية.»

ولبُّ الكتاب هنا: «إن التحدي الحقيقي أمام المدن السعودية هو في انتقالها من الاعتماد الكلي على الدولة في تكوين ميزانياتها إلى الاعتماد الذاتي على إيراداتها واستثماراتها البلدية في دعم ميزانياتها، وللخروج من هذا المأزق فلا بدَّ للعمل البلدي ولإدارة المدن من التفكير خارج الصندوق، وبعيداً عن رادار مظلة العمل البلدي التقليدي الحالي، وبفكرٍ جديدٍ وخلاق.»

وهذا تفكيرٌ متقدم جداً، يرفده ما هو لافت وجميل في ذهن الدكتور، وهو تركيزه على الإنسان قبل، ومع البنيان.

فجاء كتابه الأول: « تعزيز البعد الإنساني في العمل البلدي - الرياض أنموذجاً».

ولا أظن أن ذاكرتي تخونني إن قلت إن الرجل كان خلف فكرة «أنسنة الرياض»، والتي من ثمار فكرتها، إن شاء الله، مشروع الرياض الخضراء ضمن الرؤية 2030 ومنه التشجير، وكيف لا، وهو عضو في عدد من مجالس إدارة هيئات وشركات حكومية يرأسها صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء، منها: هيئة تطوير بوابة الدرعية، شركة تطوير المناطق السكنية، شركة تطوير وسط مدينة الرياض، مشروع القديّة، مشروع نيوم، حتى وصلت الرياض مع الرؤية إلى مشروع الرياض الخضراء وهو واحد من أكثر مشاريع التشجير طموحاً في العالم.

يشتمل المشروع على زراعة أكثر من 7.5 مليون شجرة في كافة أنحاء مدينة الرياض.. ويسعى المشروع إلى تشجير العناصر التالية:

- 390 منشأة صحية

- 64 جامعة وكلية

- 16.400 كم طولي من الطرق والشوارع

- 1.100 كم « من الأحزمة الخضراء ضمن خطوط المرافق العامة

- 272 كم طولي من الأودية وروافدها

- 175 ألف قطعة أرض فضاء

- 330 حديقة حي

- 43 متنزهاً عاماً

- 9000 مسجد

- 2000 موقع لمواقف السيارات

- 1670 منطقة ومنشأة حكومية

واليوم، وأنا أكتب هذه السطور، أعلن الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء السعودي، أن «مبادرة السعودية الخضراء»، و»مبادرة الشرق الأوسط الأخضر» اللتين سيتم إطلاقهما قريباً، سترسمان توجه المملكة والمنطقة في حماية الأرض والطبيعة ووضعها في خارطة طريق ذات معالم واضحة وطموحة وستسهمان بشكل قوي بتحقيق المستهدفات العالمية.

وها نحن أمام العقول الجميلة، ونتائج فن التخطيط والإدارة والتطوير مرةً أخرى..!

وأعود لكتابنا لأسأل: ما الذي يدفع رجلاً إلى كل هذا..؟!

ولا أجد جواباً شافياً غير الحب لهذه العاصمة، وهذا الوطن..؟!

يهدف الكتاب إلى استثمار الفرص الضائعة، وتعظيم استثمارها، يستعرض فيه بين المقدمة والخاتمة الغنيتين «عدداً من المبادرات والمقترحات، بالإضافة إلى عدد من البرامج والمشاريع التي قامت بها أمانة منطقة الرياض، وهي مبادرات لم تكن تثمر، لولا أن الأمانة سعت، وبعيداً عن تأثير القطاع البلدي الروتيني وإدارته المركزية، لمحاكاة نهج الإدارة المحلية بدعم ومساندة من سمو منطقة أمير الرياض «.

ويتركز ذلك في ثمانية فصول: الإدارة المحلية والقطاع البلدي بين النظرية والتطبيق، الرياض الكبرى مدنٌ في مدينة، العمل البلدي الواقع والمأمول، الجانب الإداري: اقتناص الفرص الضائعة وتعظيم استثمارها، وهذا الاقتناص والتعظيم ينطبق على الفصل الخامس: الجانب المالي، والسادس: الجانب التخطيطي. أما الفصل السابع: فقضايا ملكيات ومنح الأراضي، لنصل للفصل الثامن، الأخير والأثير لديَّ كشاعر، وهو برامج ومبادرات الأنسنة، وهو ككل الكتاب مهم للمتخصصين وغير المتخصِّصين، وضروري للمثقفين والإعلاميين، وفيه: مبادرات تعزيز التنمية الثقافية للمدينة، والتريُّض والمشي والساحات البلدية، وتوسيع نطاقات الخدمات البلدية لفئات المجتمع، مبادرات خدمة حماية المستهلك وتنشيط الأسواق الشعبية.

فأنسنةُ المدنِ نهجٌ وُجد ليبقى كما يقول الأمير الدكتور.

ألسنا بعد ذلك أمام عقلٍ سعوديٍّ جميل، وفنانٍ إداريٍّ مبدع.

بلى، وربِّي.

وليسمح لي الأمير الدكتور أن أسموَ معه في حُبِّ الرياض، والوطن، فأهديه هذه الأبيات لي من قصيدة «الخزامى» عن الرياض العاصمة، رمز الوطن، ودار الأعشى، وحين نقول الأعشى، فنحن نضيف بعداً تاريخياً ولغوياً وشعرياً يدل على هوية وعبقرية المكان، ونرسم مثالاً على الوطن الذي يُحتذى به في الإدارة والتخطيط والتطوير والجمال في كافة الجوانب:

وَأَنْتِ أَنْتِ.. بِلَادُ الْمَجْدِ شَاعِلَةً

فُضُولُهَا فِي ضَمِيْرِي الْحُرِّ تُشعِلُنِي

لَوْنُ الْخُزَامَى تَنَامَى فِي مَنَابِتِهَا

وَالْبُرْعُمُ الْغَضُّ صَدَّاحٌ عَلَى فَنَنِ

فِي بَوْحِهَا السِّحْرُ مَعْقُودٌ لِسَامِعِهِ

وَفِي صَدَى ذِكْرِهَا التَّارِيخُ يَرفَعُنِي

يُسَبِّحُ النّخْلُ وَالْأَشْجَارُ تَتْبَعُهُ

وَتُبْدِعُ الطَّيْرُ تَرْجِيْعَاً فَتُطرِبُنِي

أَرْضٌ تَجَلَّى بِهَا الْأَعْشَى عَلَى عَلَلِ

أَنْدَى حَرِيرَاً لَهَا مِنْ عَيْشِهِ الْخَشِنِ

«يُضَاحِكُ الشَّرْقَ مِنْهَا كَوْكَبٌ شَرِقٌ»

وَتَصْطَفِيهَا الصَّبَا فِي سَاعَةِ الْوَسَنِ

نَبْضُ الْعُرُوبَةِ «لَا نَبْغِي لهَا بَدَلَاً»

عَدْلاً وَمَيْلَاً فَذَا فَرْضِي وَذِي سُنَنِي

مَا قُلْتُ يَوْمَاً وَدَاعَاً سَوْفَ أَتْرُكُهَا

وَإِنْ هَمَمْتُ، فُؤَادِيْ لَيْسَ يَتْرُكُنِي

يَسْعَى إلى حُضْنِهَا مَنْ شَاقَهُ وَطَنٌ

وَيَرْتَجِيْ أَمْنَهَا مَنْ تَاهَ فِي الْفِتَنِ

سِرُّ الْبِلَادِ بِهَا شِعْرِي وَمُعْتَكَفِي

مَا زِلْتُ أَسْكُنُهُا عِشْقَاً وَتَسْكُنُنِي

بل ويرفعني الحُبُّ أكثر، فأبصرُ الرياض المليحة وهي تطلُّ عبر شرفتِها على وادي حنيفة، وتلك المشاريع التي أقيمت عليه بمناظرها الخلابة، فأقول للرياض:

قَلْبِي يُحِبُّكِ.. أَنْتِ عَاصِمَةُ الْهَوَى

مَهْمَا تَكَاثَرَ.. مَنْ يُحِبُّ سِوَاكِ

مَا جَادَ غُصْنٌ بَالثِّمارِ وَلَا ارْتَوَى

قَلْبٌ.. فَيَا أرض الْجَمَالِ فِدَاكِ

لَوْلَاكِ مَا عَشِقَ الْفُؤَادُ، وَلَا هَوَى

هَلْ كَانَ مِثْلِي يَا هَوَى لَوْلَاكِ

الْمُكْثُ فِيكِ فَلَا اغْتِرَابَ وَلَا نَوَى

وَالْأَمْنُ فِيكِ وَفِي يَسَارِ نَدَاكِ

وَالشِّعْرُ فِيكِ وَقَائِلٌ هَذَا غَوَى

بَلْ هَدْيُ مَنْ يُعْطِي وَقَدْ أَعْطَاكِ

صَلَّيْتُ فِي حَرَمِ الْجَمَالِ فَمَا ذَوَى

ذِكْرٌ لِأرضكِ قدْ طَغَى، وَسَمَاكِ